فصل: فَصْــل: افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فَصْـــل

إذا تبين هذا، فمن المعلوم أن الطريق التي بها يعلم إيمان الواحد من الصحابة، هي الطريق التي بها يعلم إيمان نظرائه، والطريق التي تعلم بها صحبته، هي الطريق التي يعلم بها صحبة أمثاله‏.‏

فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل‏:‏ معاوية، وأخيه يزيد، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وقد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلامهم وبقاؤهم على الإسلام إلى حين الموت‏.‏

ومعاوية أظهر إسلامًا من غيره، فإنه تولى أربعين سنة؛ عشرين سنة نائبًا لعمر وعثمان، مع ما كان في خلافة على ـ رضي اللّه عنه ـ وعشرين سنة مستوليًا، وأنه تولى سنة ستين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة، وسلم إليه الحسن بن علي ـ رضي اللّه عنهما ـ الأمر عام أربعين، الذي يقال له‏:‏ عام الجماعة؛ لاجتماع الكلمة وزوال الفتنة بين المسلمين‏.‏

وهذا الذي فعله الحسن ـ رضي اللّه عنه ـ مما أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي / صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن ابني هذا سيد، وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏)‏، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مما أثنى به على ابنه الحسن ومدحه على أن أصلح اللّه تعالى به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وذلك حين سلم الأمر إلى معاوية، وكان قد سار كل منهما إلى الآخر بعساكر عظيمة‏.‏

فلما أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بالإصلاح وترك القتال، دل على أن الإصلاح بين تلك الطائفتين كان أحب إلى اللّه ـ تعالى ـ من فعله، فدل على أن الاقتتال لم يكن مأمورًا به، ولو كان معاوية كافرًا لم تكن تولية كافر وتسليم الأمر إليه مما يحبه اللّه ورسوله، بل دل الحديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين، كما كان الحسن وأصحابه مؤمنين، وأن الذي فعله الحسن كان محمودًا عند اللّه ـ تعالى ـ محبوبًا مرضيًا له ولرسوله‏.‏

وهذا كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ ‏(‏تَمرُقُ مارقة على حين فُرْقَةٍ من الناس، فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فتقتلهم أدناهم إلى الحق‏)‏‏.‏ فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلا الطائفتين المقتتلتين - على وأصحابه، ومعاوية وأصحابه ـ على حق، وأن عليًا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه‏.‏

فإن على بن أبي طالب هو الذي قاتل المارقين، وهم الخوارج الحرورية، الذين كانوا من شيعة علي ثم خرجوا عليه، وكفروه، وكفروا من والاه، ونصبوا له العداوة، وقاتلوه ومن معه‏.‏ وهم الذين أخبر عنهم النبي / صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة، حيث قال فيهم‏:‏ ‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه يوم القيامة، آيتهم أن فيهم رجلًا مُخدَج اليدين، له عَضَل عليها شَعرات تدردر‏)‏‏[وتدَرْدَر‏:‏ أي تَرَجْرَج، تجيء وتذهب]‏‏.‏

وهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن والاه، وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافرًا، وقتله أحد رؤوسهم ـ عبد الرحمن بن مِلْجَم المرَادي ـ فهؤلاء النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا‏:‏ إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما كانوا كفارًا مرتدين، فإن من حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة، وما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة من مدح اللّه ـ تعالى ـ لهم، وثناء اللّه عليهم، ورضاه عنهم، وإخباره بأنهم من أهل الجنة، ونحو ذلك من النصوص‏.‏ ومن لم يقبل هذه الحجج لم يمكنه أن يثبت إيمان علي بن أبي طالب وأمثاله‏.‏

فإنه لو قال هذا الناصبي للرافضي‏:‏ إن عليا كان كافرًا، أو فاسقًا ظالمًا، وأنه قاتل على الملك لطلب الرياسة لا للدين، وأنه قتل من أهل الملة ـ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالجمل، وصفين، وحروراء، ألوفًا مؤلفة، ولم يقاتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كافرًا، ولا فتح مدينة، بل قاتل أهل القبلة، ونحو هذا الكلام الذي تقوله النواصب المبغضون لعلي رضي اللّه /عنه ـ لم يمكن أن يجيب هؤلاء النواصب إلا أهل السنة والجماعة، الذين يحبون السابقين الأولين كلهم، ويوالونهم‏.‏

فيقولون لهم‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، ونحوهم، ثبت بالتواتر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، وثبت في القرآن ثناء اللّه عليهم، والرضى عنهم، وثبت بالأحاديث الصحيحة ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم خصوصـًا وعمومًا ، كقوله في الحديث المستفيض عنه‏:‏‏(‏لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ إنه قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏)‏، وقوله عن عثمان‏:‏ ‏(‏ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة‏؟‏‏)‏ وقوله لعلي‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية رجلًا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، يفتح اللّه على يديه‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لكل نبي حواريون، وحواريي الزبير‏)‏ وأمثال ذلك‏.‏

وأما الرافضي فلا يمكنه إقامة الحجة على من يبغض عليًا من النواصب، كما يمكن ذلك أهل السنة الذين يحبون الجميع، فإنه إن قال‏:‏ إسلام عليّ معلوم بالتواتر‏.‏ قال له‏:‏ وكذلك إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وغيرهم، وأنت تطعن في هؤلاء، إما في إسلامهم، وإما في عدالتهم‏.‏

فإن قال‏:‏ إيمان عليٍّ ثبت بثناء النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قلنا له‏:‏ هذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تطعن أنت فيهم، ورواة فضائلهم‏:‏ سعد بن أبي /وقاص، وعائشة، وسهل بن سعد الساعدي، وأمثالهم، والرافضة تقدح في هؤلاء، فإن كانت رواية هؤلاء وأمثالهم ضعيفة، بطل كل فضيلة تروى لعليّ، ولم يكن للرافضة حجة، وإن كانت روايتهم صحيحة، ثبتت فضائل على وغيره، ممن روى هؤلاء فضائله؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم‏.‏

فإن قال الرافضي‏:‏ فضائل عليٍّ متواترة عند الشيعة ـ كما يقولون‏:‏ إن النص عليه بالإمامة متواتر ـ قيل له‏:‏ أما‏[‏الشيعة‏] ‏الذين ليسوا من الصحابة‏:‏ فإنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سمعوا كلامه، ونقلهم نقل مرسل منقطع، إن لم يسنده إلى الصحابة لم يكن صحيحًا‏.‏

والصحابة الذين تواليهم الرافضة نفر قليل ـ بضعة عشر وإما نحو ذلك ـ وهؤلاء لا يثبت التواتر بنقلهم لجواز التواطؤ على مثل هذا العدد القليل، والجمهور الأعظم من الصحابة، الذين نقلوا فضائلهم، تقدح الرافضة فيهم، ثم إذا جوزوا على الجمهور الذين أثنى عليهم القرآن الكذب والكتمان، فتجويز ذلك على نفر قليل أولى وأجوز‏.‏

وأيضًا، فإذا قال الرافضي‏:‏ إن أبا بكر، وعمر، وعثمان، كان قصدهم الرياسة والملك، فظلموا غيرهم بالولاية‏.‏ قال لهم‏:‏ هؤلاء لم يقاتلوا مسلمًا على الولاية، وإنما قاتلوا المرتدين والكفار، وهم الذين كسروا كسرى وقيصر، وفتحوا بلاد فارس، وأقاموا الإسلام وأعزوا الإيمان وأهله، وأذلوا الكفر وأهله‏.‏

/وعثمان هو دون أبي بكر وعمر في المنزلة، ومع ذلك فقد طلبوا قتله وهو في ولايته، فلم يقاتل المسلمين، ولا قتل مسلمًا على ولايته‏.‏ فإن جوزت على هؤلاء أنهم كانوا ظالمين في ولايتهم، أعداء الرسول، كانت حجة الناصبي عليك أظهر‏.‏

وإذا أسأت القول في هؤلاء، ونسبتهم إلى الظلم والمعاداة للرسول وطائفته، كان ذلك حجة للخوارج والنواصب المارقين عليك، فإنهم يقولون‏:‏ أيما أولى أن ينسب إلى طلب الرياسة‏:‏ من قاتل المسلمين على ولايته ـ ولم يقاتل الكفارـ وابتدأهم بالقتال ليطيعوه، وهم لا يطيعونه، وقتل من أهل القبلة الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون البيت العتيق، ويصومون شهر رمضان، ويقرؤون القرآن ـ ألوفًا مؤلفة، ومن لم يقاتل مسلمًا، بل أعزوا أهل الصلاة والزكاة، ونصروهم وآووهم، أو من قتل وهو في ولايته، لم يقاتل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل في داره وبين أهله ـ رضي اللّه عنه ‏؟‏ فإن جوزت على مثل هذا أن يكون ظالمًا للملك ظالمًا للمسلمين بولايته، فتجويزك هذا على من قاتل على الولاية وقتل المسلمين عليها أولى وأحرى‏.‏

وبهذا وأمثاله، يتبين أن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبًا وجهلًا ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد، كما دخل فيهم النصيرية، / والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء اللّه من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه، فهم كما قال فيهم الشعبي- وكان من أعلم الناس بهم ـ‏:‏ لو كانوا من البهائم لكانوا حمرًا، ولو كانوا من الطير لكانوا رَخَمًا‏.‏

ولهذا كانوا أبْهَت الناس وأشدهم فِريَة، مثل ما يذكرون عن معاوية، فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمَّر غيره، وجاهد معه، وكان أمينًا عنده يكتب له الوحي، وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي‏.‏ وولاه عمر بن الخطاب‏:‏ الذي كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب اللّه الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته‏.‏

وقد ولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أباه أبا سفيان إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ولايته‏.‏ فمعاوية خير من أبيه وأحسن إسلامًا من أبيه باتفاق المسلمين، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولى أباه فلأن تجوز ولايته بطريق الأولى والأحرى، ولم يكن من أهل الردة قط، ولا نسبه أحد من أهل العلم إلى الردة، فالذين ينسبون هؤلاء إلى الردة هم الذين ينسبون أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعامة أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان إلى ما لا يليق بهم‏.‏

/والذين نسبوا هؤلاء إلى الردة يقول بعضهم‏:‏ إنه مات ووجهه إلى الشرق والصليب على وجهه، وهذا مما يعلم كل عاقل أنه من أعظم الكذب والفرية عليه‏.‏ ولو قال قائل هذا فيمن هو دون معاوية من ملوك بني أمية وبني العباس؛ كعبد الملك بن مروان وأولاده، وأبى جعفر المنصور وولديه ـ الملقبين بالمهدي، والهادي والرشيد، وأمثالهم من الذين تولوا الخلافة وأمر المؤمنين، فمن نسب واحدًا من هؤلاء إلى الردة، وإلى أنه مات على دين النصارى، لَعَلِم كل عاقل أنه من أعظم الناس فرية، فكيف يقال مثل هذا في معاوية وأمثاله من الصحابة‏.‏

بل يزيد ابنه، مع ما أحدث من الأحداث، من قال فيه‏:‏ إنه كافر مرتد، فقد افترى عليه، بل كان ملكًا من ملوك المسلمين كسائر ملوك المسلمين، وأكثر الملوك لهم حسنات ولهم سيئات، وحسناتهم عظيمة، وسيئاتهم عظيمة، فالطاعن في واحد منهم دون نظرائه إما جاهل، وإما ظالم‏.‏

وهؤلاء لهم ما لسائر المسلمين، منهم من تكون حسناته أكثر من سيئاته، ومنهم من قد تاب من سيئاته، ومنهم من كفر اللّه عنه، ومنهم من قد يدخله الجنة، ومنهم من قد يعاقبه لسيئاته، ومنهم من قد يتقبل اللّه فيه شفاعة نبي أو غيره من الشفعاء، فالشهادة لواحد من هؤلاء بالنار هو من أقوال أهل البدع والضلال‏.‏

/وكذلك قصد لعنة أحد منهم بعينه، ليس هو من أعمال الصالحين والأبرار‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لعن اللّه الخمرة، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، وساقيها، وشاربها، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها‏)‏‏.‏ وصح عنه أنه كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجل يكثر شربها يدعى‏[حمارًا‏]‏، وكان كلما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم جلده، فأتى به إليه ليجلده، فقال رجل‏:‏ لعنه اللّه‏!‏ ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تلعنه، فإنه يحب اللّه ورسوله‏)‏‏.‏ وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر عمومًا، ونهى عن لعنة المؤمن المعين‏.‏

كما أنا نقول ما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏10‏] ‏فلا ينبغي لأحد أن يشهد لواحد بعينه أنه في النار، لإمكان أن يتوب أو يغفر له اللّه بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو يعفو اللّه عنه، أو غير ذلك‏.‏

فهكذا الواحد من الملوك أو غير الملوك، وإن كان صدر منه ما هو ظلم، فإن ذلك لا يوجب أن نلعنه ونشهد له بالنار‏.‏ ومن دخل في ذلك كان من أهل البدع والضلال، فكيف إذا كان للرجل حسنات عظيمة يرجى له بها المغفرة مع ظلمه، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه /قال‏:‏ ‏(‏أول جيش يغزو قسطنطينية مغفور له‏)‏، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه في الغُزَاة أبو أيوب الأنصاري، وتوفى هناك، وقبره هناك إلى الآن‏)‏‏.‏

ولهذا كان المقتصدون من أئمة السلف يقولون في يزيد وأمثاله‏:‏ إنا لا نسبهم ولا نحبهم، أي‏:‏ لا نحب ما صدر منهم من ظلم‏.‏ والشخص الواحد يجتمع فيه حسنات وسيئات، وطاعات ومعاصي، وبر وفجور وشر، فيثيبه اللّه على حسناته، ويعاقبه على سيئاته إن شاء أو يغفر له، ويحب ما فعله من الخير، ويبغض ما فعله من الشر‏.‏

فأما من كانت سيئاته صغائر، فقد وافقت المعتزلة على أن اللّه يغفرها‏.‏

وأما صاحب الكبيرة، فسلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة لا يشهدون له بالنار، بل يجوزون أن اللّه يغفر له، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏48‏]‏، فهذه في حق من لم يشرك، فإنه قيدها بالمشيئة، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏‏[الزمر‏:‏ 35‏]‏، فهذا في حق من تاب، ولذلك أطلق وعم‏.‏

والخوارج والمعتزلة يقولون‏:‏ إن صاحب الكبيرة يُخَلَّد في النار، ثم إنهم / قد يتوهمون في بعض الأخيار أنه من أهل الكبائر، كما تتوهم الخوارج في عثمان وعلى وأتباعهما أنهم مخلدون في النار، كما يتوهم بعض ذلك في مثل معاوية وعمرو بن العاص، وأمثالهما، ويبنون مذاهبهم على مقدمتين باطلتين‏:‏

إحداهما‏:‏ أن فلانًا من أهل الكبائر‏.‏

والثانية‏:‏ أن كل صاحب كبيرة يخلد في النار‏.‏

وكلا القولين باطل‏.‏ وأما الثاني فباطل على الإطلاق، وأما الأول فقد يعلم بطلانه، وقد يتوقف فيه‏.‏

ومن قال عن معاوية وأمثاله، ممن ظهر إسلامه وصلاته، وحجه وصيامه ـ أنه لم يسلم، وأنه كان مقيمًا على الكفر‏:‏ فهو بمنزلة من يقول ذلك في غيره، كما لو ادعى مدع ذلك في العباس، وجعفر، وعقيل، وفي أبي بكر، وعمر، وعثمان‏.‏ وكما لو ادعى أن الحسن والحسين ليسا ولدي عليّ بن أبي طالب، إنما هما أولاد سلمان الفارسي، ولو ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج ابْنَتَيْ أبي بكر وعمر، ولم يزوج بنتيه عثمان، بل إنكار إسلام معاوية أقبح من إنكار هذه الأمور، فإن منها ما لا يعرفه إلا العلماء‏.‏

وأما إسلام معاوية وولايته على المسلمين والإمارة والخلافة، فأمر يعرفه جماهير الخلق، ولو أنكر منكر إسلام عليّ أو ادعى بقاءه على الكفر، لم يحتج /عليه إلا بمثل ما يحتج به على من أنكر إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان ومعاوية وغيرهم، وإن كان بعضهم أفضل من بعض، فتفاضلهم لا يمنع اشتراكهم في ظهور إسلامهم‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ إيمان معاوية كان نفاقًا فهو ـ أيضا ـ من الكذب المختلق، فإنه ليس في علماء المسلمين من اتهم معاوية بالنفاق، بل العلماء متفقون على حسن إسلامه، وقد توقف بعضهم في حسن إسلام أبي سفيان ـ أبيه ـ وأما معاوية، وأخوه يزيد، فلم يتنازعوا في حسن إسلامهما، كما لم يتنازعوا في حسن إسلام عكرمة بن أبي جهل، وسُهَيْل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأمثالهم من مسلمة الفتح، وكيف يكون رجلًا متوليًا على المسلمين أربعين سنة نائبًا، ومستقلًا يصلي بهم الصلوات الخمس ويخطب ويعظهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقيم فيهم الحدود، ويقسم بينهم فيْأهم ومغانمهم وصدقاتهم، ويحج بهم، ومع هذا يخفى نفاقه عليهم كلهم وفيهم من أعيان الصحابة جماعة كثيرة‏!‏

بل أبلغ من هذا أنه ـ وللّه الحمد ـ لم يكن من الخلفاء الذين لهم ولاية عامة ـ من خلفاء بني أمية، وبني العباس ـ أحد يتهم بالزندقة والنفاق، وبنو أمية لم ينسب أحد منهم إلى الزندقة والنفاق ـ وإن كان قد ينسب الرجل منهم إلى نوع من البدعة، أو نوع من الظلم، لكن لم ينسب أحد منهم من أهل العلم إلى زندقة ونفاق‏.‏

/وإنما كان المعروفون بالزندقة والنفاق بني عبيد القداح، الذين كانوا بمصر والمغرب، وكانوا يدعون أنهم علويون، وإنما كانوا من ذرية الكفار، فهؤلاء قد اتفق أهل العلم على رميهم بالزندقة والنفاق، وكذلك رمي بالزندقة والنفاق قوم من ملوك النواحي الخلفاء من بني بويه وغير بني بويه، فأما خليفة عام الولاية في الإسلام، فقد طهر اللّه المسلمين أن يكون ولي أمرهم زنديقًا منافقًا، فهذا مما ينبغي أن يعلم ويعرف، فإنه نافع في هذا الباب‏.‏

واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكًا ورحمة، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عَضُوض‏)‏‏[‏وملك عَضُوض أي‏:‏ يصيب الرَّعية فيه عسف وظلم‏] وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيرًا من ملك غيره‏.‏

وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكًا‏)‏‏.‏ وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ـ رضي اللّه عنهم ـ هم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء/ الراشدين من بعدي، تَمَسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة‏)‏‏.‏

وقد تنازع كثير من الناس في خلافة عليّ، وقالوا‏:‏ زمانه زمان فتنة، لم يكن في زمانه جماعة، وقالت طائفة‏:‏ يصح أن يولي خليفتان، فهو خليفة، ومعاوية خليفة، لأن الأمة لم تتفق عليه، ولم تنتظم في خلافته‏.‏

والصحيح الذي عليه الأئمة‏:‏ أن عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ من الخلفاء الراشدين، بهذا الحديث، فزمان علي كان يسمى نفسه أمير المؤمنين، والصحابة تسميه بذلك، قال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ من لم يُرَبِّع بعليّ ـ رضي اللّه عنه ـ في الخلافة فهو أضل من حمار أهله، ومع هذا فلكل خليفة مرتبة‏.‏

فأبو بكر وعمر لا يوازنهما أحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي‏:‏ أبي بكر وعمر‏)‏، ولم يكن نزاع بين شيعة علي الذين صحبوه في تقديم أبي بكر وعمر، وثبت عن علي من وجوه كثيرة أنه قال‏:‏ لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلاجلدته حد المفترى‏.‏

وإنما كانـوا يتنازعون في عثمان وعـلي ـ رضي اللّه عنهما ـ لكن ثبت تقديم عثمان على عليٍّ، باتفاق السابقين على مبايعة عثمان طوعًا بلا كره، بعد أن جعل عمر الشورى في ستة‏:‏ عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، /وعبد الرحمن بن عوف‏.‏ وتركها ثلاثة وهم‏:‏ طلحة، والزبير، وسعد، فبقيت في ثلاثة‏:‏ عثمان، وعليّ، وعبد الرحمن فولى أحدهما، فبقى عبد الرحمن يشاور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثلاثة أيام، ثم أخبر أنهم لم يعدلوا بعثمان‏.‏

ونقل وفاته وولايته حديث طويل، فمن أراده فعليه بأحاديث الثقات، واللّه أعلم‏.‏ وصلى اللّه على نبينا محمد وسلم‏.‏

/قال شيخ الإسْلام ـ رَحِمَه اللّه‏:‏

 فَصْــل

افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق‏:‏ طرفان ووسط‏.‏

فأحد الطرفين قالوا‏:‏ إنه كان كافرًا منافقًا، وأنه سعى في قتل سبط رسول اللّه، تَشَفِّيًا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وانتقامًا منه، وأخذًا بثأر جده عتبة، وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها، وقالوا‏:‏ تلك أحقاد بدرية، وآثار جاهلية، وأنشدوا عنه‏:‏

لما بدت تلك الحمول وأشـــرفت ** تلك الرؤوس على ربـي جيرون

نعق الغراب، فقلت نح أولا تنح ** فلقــد قضـيت من النــبي ديوني

وقالوا‏:‏ إنه تمثل بشعر ابن الزَّبَعْرى الذي أنشده يوم أحد‏:‏

ليت أشياخي ببدر شهــــدوا ** جزع الخـــزرج من وقع الأسل

/قــد قتلنا الكثير من أشياخهم ** وعدلنــاه ببـــدر فاعتــــــدل

وأشياء من هذا النمط‏.‏

وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر، وعمر، وعثمان، فتكفير يزيد أسهل بكثير‏.‏

والطرف الثاني‏:‏ يظنون أنه كان رجلًا صالحًا وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمله على يديه وبرَّك عليه، وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبيًا، ويقولون عن الشيخ عدي، أو حسن المقتول ـ كذبًا عليه ـ‏:‏ إن سبعين وليًا صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد‏.‏

وهذا قول غالية العدوية والأكراد ونحوهم من الضلال، فإن الشيخ عديًا كان من بني أمية، وكان رجلًا صالحًا عابدًا فاضلًا، ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي، فإن عقيدته موافقة لعقيدته، لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلال، من الأحاديث الموضوعة والتشبيه الباطل، والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد، والغلو في ذم الرافضة، بأنه لا تقبل لهم توبة، وأشياء أخر‏.‏

وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين؛ ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة‏.‏

/والقول الثالث‏:‏ أنه كان ملكًا من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرا، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحبًا ولا من أولياء اللّه الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة‏.‏

ثم افترقوا ثلاث فرق‏:‏ فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين‏.‏

قال صالح بن أحمد‏:‏ قلت لأبي‏:‏ إن قومًا يقولون‏:‏ إنهم يحبون يزيد، فقال‏:‏ يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن باللّه واليوم الآخر‏؟‏ فقلت‏:‏ يا أبت، فلماذا لا تلعنه‏؟‏ فقال‏:‏ يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا‏.‏

وقال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان‏.‏ فقال‏:‏ هو الذي فعل بالمدينة ما فعل‏.‏ قلت‏:‏ وما فعل‏؟‏ قال‏:‏ قتل من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفعل‏.‏ قلت‏:‏ وما فعل‏؟‏ قال‏:‏ نهبها‏.‏ قلت‏:‏ فيذكر عنه الحديث‏؟‏ قال‏:‏ لا يذكر عنه حديث‏.‏ وهكذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره‏.‏

وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد‏:‏ فيما بلغني لا يُسَبّ ولا يُحَبّ‏.‏

وبلغني ـ أيضًا ـ أن جدنا أبا عبد اللّه بن تيمية سئل عن يزيد‏.‏ فقال‏:‏ لا تنقص ولا تزيد‏.‏ وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها‏.‏

/أما ترك سبه ولعنته، فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريمًا، وإما تنزيهًا‏.‏ فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة ‏[حمار‏] الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تلعنه ، فإنه يحب اللّه ورسوله‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏لَعْنُ المؤمِن كقتله‏)‏‏.‏ متفق عليه‏.‏

هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها، فقد ثبت أن النبي لعن عمومًا شارب الخمر، ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين‏.‏

وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزاني، والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار؛ لجواز تخلف المقتضَى عن المقتضِي لمعارض راجح‏:‏ إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة، وإما غير ذلك كما قررناه في غير هذا الموضع، فهذه ثلاثة مآخذ‏.‏

ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول، لا لكراهة في اللعنة‏.‏ وأما ترك محبته، فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وليس واحدًا منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏ ومن آمن باللّه واليوم الآخر، لا يختار أن يكون مع يزيد، ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين‏.‏

/ ولترك المحبة مأخذان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقى واحدًا من الملوك المسلطين، ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة، وهذا المأخذ، ومأخذ من لم يثبت عنده فسقه اعتقد تأويلًا‏.‏

والثاني‏:‏ أنه صدر عنه ما يقتضى ظلمه وفسقه في سيرته، وأمر الحسين وأمر أهل الحرة‏.‏

وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج ابن الجوزي، والكياالهراسي‏ [هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري، الملقب بعماد الدين، الفقيه الشافعي، كان من أهل طبرستان، تولى تدريس المدرسة النظامية ببغداد، كانت ولادته سنة 450هـ، وتوفى سنة 504 هـ ببغداد] وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته، ثم قد يقولون‏:‏ هو فاسق، وكل فاسق يلعن‏.‏ وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقه، كما لعن أهل صفين بعضهم بعضًا في القنوت، فلعن على وأصحابه في قنوت الصلاة رجالًا معينين من أهل الشام؛ وكذلك أهل الشام لعنوا، مع أن المقتتلين من أهل التأويل السائغ ـ العادلين، والباغين ـ لا يفسق واحد منهم، وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يعلن سائر الفساق، كما لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنواعًا من أهل المعاصي، وأشخاصًا من العصاة، وإن لم يلعن جميعهم، فهذه ثلاثة مآخذ للعنته‏.‏

وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان‏:‏

/أحدهما‏:‏ أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة، وكان متأولًا فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون‏:‏ هو مجتهد مخطئ، ويقولون‏:‏ إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولًا، وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد‏.‏

والمأخذ الثاني‏:‏ أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر؛ أن رسول اللّهصلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له‏)‏ وأول جيش غزاها كان أميره يزيد‏.‏

والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد؛ فإن اللعنة لمن يعمل المعاصي مما يسوغ فيها الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له، وأن يلعن ويشتم أيضًا باعتبار وجهين‏.‏

فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها فإنهم لابد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب، ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب‏.‏ والمسألة مشهورة، وتقريرها في غير هذا الموضع‏.‏

/وأما جواز الدعاء للرجل وعليه، فبسط هذه المسألة في الجنائز، فإن موتى المسلمين يُصلى عليهم؛ برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجبت مقدم المغل بولاي؛ لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة، وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات، فسألني فيما سألني‏:‏ ما تقولون في يزيد‏؟‏ فقلت‏:‏ لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلًا صالحًا فنحبه، ونحن لا نسب أحدًا من المسلمين بعينه، فقال‏:‏ أفلا تلعنونه‏؟‏ أما كان ظالمًا‏؟‏ أما قتل الحسين‏؟‏

فقلت له‏:‏ نحن إذا ذكر الظالمون ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ نقول كما قال اللّه في القرآن‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏ ولا نحب أن نلعن أحدًا بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن‏.‏

وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضى بذلك، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صَرْفًا ولا عَدْلًا‏.‏

قال‏:‏ فما تحبون أهل البيت‏؟‏ قلت‏:‏ محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال‏:‏ خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغَدِير يدعى‏:‏ خمّا، بين مكة والمدينة فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه‏)‏، فذكر كتاب اللّه وحض عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏وعِتْرَتِي / أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي‏)‏‏.‏ قلت لمقدم‏:‏ ونحن نقول في صلاتنا كل يوم‏:‏ ‏(‏اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد‏)‏‏.‏ قال مقدم‏:‏ فمن يبغض أهل البيت‏؟‏ قلت‏:‏ من أبغضهم فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صرفًا ولا عدلا‏.‏

ثم قلت للوزير المغولي‏:‏ لأي شىء قال عن يزيد وهذا تتريٌ‏؟‏ قال‏:‏ قد قالوا له‏:‏ إن أهل دمشق نواصب، قلت بصوت عال‏:‏ يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة اللّه، واللّه ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيًا، ولو تنقص أحد عليا بدمشق، لقام المسلمون عليه، لكن كان ـ قديمًا لما كان بنو أمية ولاة البلاد ـ بعض بني أمية ينصب العداوة لعليّ ويسبه، وأما اليوم فما بقى من أولئك أحد‏.‏

/ سُئـلَ عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد، ومنهم من يقول‏:‏ إن الدين فسد من قبل هذه، وهو من حين أخذت الخلافة من علي بن أبي طالب، فإن الذين تولوا مكانه لم يكونوا أهلا للولاية، فلم تصح توليتهم، ولم يصح للمسلمين بعد ذلك عقد من عقودهم، لا عقد نكاح ولا غيره، وأن جميع من تزوج بعد تلك الواقعة فنكاحه فاسد، وكذلك العقود جميعها فاسدة، والولايات وغيرها‏.‏

ويزعم قائل هذا‏:‏ أن اللّه صليب، وأن كل حرف من الجلالة على رأس خط من خطوط الصليب، ويقرر للناس أن اليهود والنصارى على حق، وكذلك المجوس وغيرهم‏!‏‏!‏

فأَجَـابَ ـ رحمه اللّه تعالى‏:‏

أما هذا الجاهل فهو شبيه في جهله بالرافضة، الذين يكذبون، وخرافاتهم التي لا تروج إلا على جاهل لا يعرف أصول الإسلام، كالذين ذكروا في هذا السؤال‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم يقولون‏:‏ إن الدين فسد من حين أخذت الخلافة من علي، وذلك / من حين موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الخلفاء الراشدين لم يكونوا أهلًا للولاية، وأن عقود المسلمين باطلة، وأن اللّه صليب، ويقرر دين اليهود والنصارى والمجوس، فإن هذا زنديق من شر الزنادقة، من جنس قرامطة الباطنية، كالنصيرية والإسماعيلية وأتباعهم‏.‏

ولهذا يتكلم بالتناقض، فإن من يقرر دين اليهود والنصارى والمجوس، ويطعن في دين الخلفاء الراشدين المهديين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لا يكون إلا من أجهل الناس وأكفرهم، ولو كان من المؤمنين، الذين يعلمون أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وأن خير الأمة القرن الأول، ثم الذين يلونه ثم الذين يلونه؛ لما كان مقررًا لدين الكفار، طاعنًا في دين المهاجرين والأنصار، والرد على هذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

وقد ذكرنا في ذلك في الرد على الرافضة ما لا يتسع له هذا الموضع‏.‏

ومثل هذا القول لا يقوله من يؤمن بأن محمدًا رسول اللّه، فنجيب من يقر أن محمدًا رسول اللّه، فنبين له مما جاء به ما يزيل شبهته، فأما من يطعن في نبوته، فنكلمه من وجه آخر، ولكل مقام مقال‏.‏

/ سُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّه ـ‏:‏

هل يصح عند أهل العلم‏:‏ أن عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ قاتل الجن في البئر‏؟‏ ومدَّ يده يوم خيبر، فعبر العسكر عليها‏؟‏ وأنه حمل في الأحزاب فافترقت قدامه سبع عشرة فرقة‏؟‏ وخلف كل فرقة رجل يضرب بالسيف يقول‏:‏ أنا علي‏؟‏ وأنه كان له سيف يقال له‏:‏ ذو الفقار، وكان يمتد ويقصر، وإنه ضرب به مرحبًا وكان على رأسه جُرْن من رخام فقصم له ولفرسه بضربة واحدة، ونزلت الضربة في الأرض، ومناد ينادي في الهواء‏:‏ لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ‏؟‏ وأنه رمي في المنجنيق إلى حصن الغراب‏؟‏ وأنه بعث إلى كل نبي سرًا، وبعث مع النبي صلى الله عليه وسلم جهرًا‏؟‏ وأنه كان يحمل في خمسين ألفًا، وفي عشرين ألفًا، وفي ثلاثين ألفًا وحده‏؟‏ وأنه لما برز إليه مرحب من خيبر ضربه ضربة واحدة فَقَدَّه‏ [أي‏:‏ قطعة‏] ‏طولًا، وقد الفرس عرضًا، ونزل السيف في الأرض ذراعين أو ثلاثة‏؟‏ وأنه مسك حلقة باب خيبر وهزها فاهتزت المدينة، ووقع من على السور شرفات، فهل صح من ذلك شىء‏؟‏‏!‏

فَأَجَــاب‏:‏

الحمد للّه، هذه الأمور المذكورة كذب مُخْتَلَقٌ باتفاق أهل العلم والإيمان، /لم يقاتل عليّ ولا غيره من الصحابة الجن، ولا قاتل الجنَّ أحدٌ من الإنس، لا في بئر ذات العلم ولا غيرها‏.‏

والحديث المروي في قتاله للجن موضوع مكذوب باتفاق أهل المعرفة، ولم يقاتل عليّ قط على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعسكر كان خمسين ألفًا أو ثلاثين ألفًا، فضلا عن أن يكون وحده قد حمل فيهم، ومغازيه التي شهدها مع رسول اللّه وقاتل فيها كانت تسعة‏:‏ بدرًا، وأحدًا، والخندق، وخيبر، وفتح مكة، ويوم حنين، وغيرها‏.‏

وأكثر ما يكون المشركون في الأحزاب وهي الخندق، وكانوا محاصرين للمدينة، ولم يقتتلوا هم والمسلمون كلهم، وإنما كان يقتتل قليل منهم وقليل من الكفار، وفيها قتل عليّ عمرو بن عَبْد ود العامري، ولم يبارز عليّ وحده قط إلا واحدًا، ولم يبارز اثنين‏.‏

وأما مرحب يوم خيبر، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية رجلًا يحب اللّهَ ورسولَه، ويحبه اللّهُ ورسولُه، يفتح اللّه على يديه‏)‏ ، فأعطاها لعلي، وكانت أيام خيبر أيامًا متعددة، وحصونها، فتح على يد عليّ ـ رضي اللّه عنه ـ بعضها‏.‏

وقد روي أثر أنه قتل مرحبًا، وروي أنه قتله محمد بن مسلمة، ولعلهما مرحبان، وقتله القتل المعتاد، ولم يقده جميعه، ولا قد الفرس، ولا نزل /السيف إلى الأرض، ولا نزل لعلي ولا لغيره سيف من السماء، ولا مد يده ليعبر الجيش، ولا اهتز سور خيبر لقلع الباب، ولا وقع شىء من شرفاته، وإن خيبر لم تكن مدينة وإنما كانت حصونًا متفرقة، ولهم مزارع‏.‏

ولكن المروي أنه ما قلع باب الحصن حتى عبره المسلمون، ولا رمي في منجنيق قط، وعامة هذه المغازي التي تروى عن عليّ وغيره، قد زادوا فيها أكاذيب كثيرة، مثل ما يكذبون في سيرة عنترة والأبطال‏.‏ وجميع الحروب التي حضرها علي ـ رضي اللّه عنه ـ بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة حروب‏:‏ الجمل، وصفين، وحرب أهل النهروان، واللّه أعلم‏.‏

/ سُئِـــل عمن قال‏:‏

إن عليا قاتل الجن في البئر، وأنه حمل على اثني عشر ألفًا وهزمهم‏.‏

فَأَجَــاب‏:‏

لم يحمل أحد من الصحابة وحده لا في اثني عشر ألفًا ولا في عشرة آلاف ، لا علي ولا غيره، بل أكثر عدد اجتمع على النبي صلى الله عليه وسلم هم الأحزاب الذين حاصروه بالخندق، وكانوا قريبًا من هذه العدة، وقتل علي رجلا من الأحزاب اسمه‏:‏ عمرو بن عبد ودٍ العامري‏.‏

ولم يقاتل أحد من الإنس للجن، لا علىٌّ ولا غيره، بل عليٌّ كان أجل قدرًا من ذلك، والجن الذين يتبعون الصحابة يقاتلون كفار الجن، لا يحتاجون في ذلك إلى قتال الصحابة معهم‏.‏